إذاً فليكن الطريق هو الصراط المستقيم، وليكن العمل كله في هذا الخط لاحتمال أن خروجاً ما في لحظة ما تكون فيه النهاية، ولهذا الأوامر في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة السلف الصالح بالثبات بالاستقامة، قال تعالى: ((
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ))[هود:112]، وقال عليه الصلاة والسلام: (
قل آمنت بالله ثم استقم )، وقال تعالى: ((
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30]، ولذلك يجب على الإنسان أن يوحد حتى شعوره وفكره، وأن لا ينغمس حتى في الخيالات والأحلام؛ لأن الشيطان حريص على إغواء الإنسان، فإن لم يجد منه إلا هذه الخيالات أغرقه فيها وجاءه من طريقها، وقيمة الحياة لا يعرفها إلا من عرف الحقائق الإيمانية، ولذلك تحسر أحد السلف حينما مر بقوم يلهون ويلعبون وفي الغواية سادرون فقال: يا ليت الوقت يشترى؛ لأن المؤمن يضيق وقته حتى عن التفكير لانشغال فكره بما هو أهم، وغيره يضيع الأعمار والأوقات، ويفكر كيف يضيع حياته؟! لأنه ما عرف قيمة الحياة، وما عرف أن هذا العمر هو حقيقة الحياة، ولا يعرف ذلك إلا من عرف حقيقة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأنه يجب عليه أن يصبح والآخرة أكبر همه، وأن يكون كل عمله لله سبحانه وتعالى، حتى همه وفكره، والأعمال هي نتائج الفكر، و
ابن القيم رحمه الله قد ضرب مثالاً فقال: هذا الفكر كالرحى، فالرحى تدور باستمرار، وهذه من حكمة الله سبحانه، إذ إن أي إنسان لا يمكن أن ينقطع فكره وهو يقظان أو نائم، قال: إن وضع فيها حباً فماذا تطحن؟ لاشك أنها ستطحن حباً، وتكون النتيجة دقيقاً، وإن وضع فيها الحصى والبعر والرمل كانت النتيجة من جنس ما يوضع فيها، فعلى الإنسان أن يفكر في الآخرة، أو في لقاء الله سبحانه وتعالى، أو في أمر من أمور المسلمين، كأن يفكر في التواصي بالمرحمة، وكيف نرحم هؤلاء الناس؟ وكيف ندعو إلى الله؟ وبالتالي تكون النتيجة أعمالاً وثمرات طيبة لهذا التفكير، وهذا الخاطر عندما دار في هذا الشيء تحرك القلب فأنتج شيئاً ما، ولو لم ينتج إلا الدعاء، أي: أن تدعو الله أن يثبتك وأن يحفظك، فتكون قد ذكرت الله بقلبك وذكرت الله بلسانك أيضاً.وهكذا لا بد أن ينتج شيئاً ما، والنتيجة من جنس ما شغل وفكر فيه، ولذلك الذين أدركوا هذه الحقيقة من أعداء الله سبحانه وتعالى لماذا يحرصون على أن يكون الإعلام أربعة وعشرين ساعة لهواً وفساداً وغناء وإعلانات ودجلاً وشركاً ودعاية سياسية كاذبة؟ لقد ذهب الإنسان يسجل هذه المرئيات ويلتقطها، فمن أين يأتي الإيمان؟ ومن أين يأتي الخير؟ ومن أين تأتي مجرد فكرة أو حديث عن الآخرة؟! ولذلك يوم القيامة يقول الضعفاء للمستكبرين أصحاب هذه الوسائل: ((
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))[سبأ:33]، فيحتج المستكبرون فيقولون: ((
أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ))[سبأ:32]، أي: ما صنعنا بكم شيئاً، بل أنتم الذين كفرتم وتمتعتم، فيجيب المستضعفون: ((
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))[سبأ:33]، أي: مكركم ليلاً ونهاراً هو الذي ضيعنا وألهانا وأبعدنا عن الدين، وهذا لا ينفع المستضعفين: ((
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ))[غافر:48]، وقال: ((
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ))[الأعراف:38]، أي: الكل له ضعف، لكن المقصود أن الإنسان يحرص على نفسه وعلى أهله وعلى أسرته من هذا المكر الذي يدور ليل نهار يريد أن يدور بك وبعقلك، وتجد بعض الناس أمام بيت من الشعر يهلك ويسقط والعياذ بالله، وبيت من الشعر يثير في ذهنه شهوة أو شبهة، فأخذ يفكر فضعف يقينه، وانحلت عقد الإخلاص والإيمان والخشوع من قلبه، فأهمل في صلاته، وربما تركها، فمات كافراً والعياذ بالله، وبمنظر إلى امرأة رآها على الطبيعة أو صورة قد يضيع دين الإنسان كله والعياذ بالله، فيجب على الإنسان أن يحفظ هذه الجوارح، ولا يقول: الإيمان في القلب فقط! أو الإيمان على اللسان فقط! إذ إن حياتك كلها يجب أن تكون كالحارس المستوفز الذي يعلم أن الأعداء محيطون به من كل جهة، ولو غفل عن سلاحه لقضي عليه واحتلت قلعته الحصينة وهي القلب، فلتحصنه بذكر الله سبحانه وتعالى، ولا تترك مجالاً لشهوة أو شبهة تدخل إليك فتفسده فساداً قد لا يرجى صلاحه، أو تأتي بمرض لا يرجى برؤه.إن كل زعماء الضلال في العالم إنما كانت بداية الضلال جلسة مع مجرم منحرف ملحد، كتاب، أو مقالة، أو قرأها له، هكذا الانزلاق، واسأل مدمن الخمر: كيف وقعت الكأس الأولى، واسأل مدمن التدخين: كيف وقعت السيجارة الأولى؟ وبعد ذلك تتابع والعياذ بالله، وهكذا كل من توغل وتورط في الفساد وأوقعه الشيطان في شباكه، إنما يكون عن طريق أول مرة، ثم تراخى، ثم لم يبادر بالتوبة، لم يتذكر فإذا هو مبصر، فاستمر فتمادى، فهلك في النهاية، ومن هنا فالإيمان هو على كل الأعضاء، وفي كل الأوقات، وفي جميع الساعات، وفي جميع الأحوال، ولذلك لابد أن تكون مؤمناً حقاً، في الضراء والسراء، في الرخاء والشدة، في الفرح والترح، ولذلك ما ترك لنا هذا الدين العظيم، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا وبين لنا كيف نرضي الله، وكيف نطيع الله تبارك وتعالى فيه، حتى الأفراح كيف تطيع الله تعالى في زواجك وفي الاحتفال به، بل وحتى في دخولك على أهلك، إن كل شيء قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في الأعياد بين لنا العيدين، وكيف نفرح فيهما، في أكلنا وفي طعامنا وفي منامنا، قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. أي: أن كل شيء قد بينه صلى الله عليه وسلم فالحكم في كل شيء أمامه واضح من العدل والإيثار والحرص على الرعية والشفقة، والالتزام بأحكام الله سبحانه وتعالى، سواء على الشريف أو الضعيف، بل كل ما يحتاج إليه الحاكم فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة فيه، كذلك كل شيء يتعلق بالحياة الزوجية والحقوق بين الزوجين أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه عملياً وبأوامره لهذه الأمة، والعالم كيف يجب أن يكون مع الأمة؟ أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواعظه وتعليمه ودعوته وبيانه للحق، والمربي المصلح والقائد العسكري كيف يعلم؟ كل ذلك وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح كيف يتعامل مع جنده؟ ولأي شيء يقاتلون؟ وكيف يرفق بهم؟ وكيف يأمرهم؟ كل شيء جاء به هذا الدين وأوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أنه رسول من عند الله، وإلا فكيف في بشر واحد تتمثل هذه الصفات جميعاً على أعلى درجات الكمال؟! إن الأمم الكافرة التي لا تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤمن به، تجعل لها قدوة في السياسية، وقدوة في القيادة، وقدوة في غير ذلك، وماذا تجد في الجوانب الأخرى؟ تجد حتى على تصورهم المحدود قائداً عسكرياً قدوة في القيادة، في الوطنية، القائد العسكري الوطني الذي يضحي بنفسه وبجنده من أجل الوطن إلى آخر ذلك، بينما في الجوانب الإنسانية والعائلية والعاطفية تجد السواد الكالح، فما من زعيم في
أوروبا أو رئيس لـ
أمريكا إلا ويكتب عنه الكتاب الوجه الآخر، كيف الجانب الآخر؟ يقول لك: هذا الرئيس الذي أمام الناس حازم وصارم ويتكلم ويأمر، له جانب آخر من العلاقات الغرامية والقمار والفسق والتعري! إنه شيء عجيب جداً، فهو لو كان قدوة في شيء معين، فإن جوانب أخرى في غاية السم والقبح من الأخلاق الرذيلة، وحدث عنه ولا حرج، وآخر تجده قدوة في المال، فيكون تاجراً كبيراً استطاع أن ينهض بالشركة في كذا سنة، فيصبح مليونيراً ضخماً، وأخلاقه الشح والجشع وتجده الغشاش الكذاب، وكل الصفات القبيحة تجدها فيه، فهم يقولون: لا تتحقق قدوة متكاملة في غاية الكمال إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه من حكمة الله جعل لخلفائه وورثته في هذا لكل منهم نصيب بقدر اجتهاده، فللعلماء نصيب بقدر اجتهادهم، أي: في موافقة سنته صلى الله عليه وسلم في العلم، وللحكام نصيب كما كان الخلفاء الراشدون في سيرته في الحكم والسياسة، وللقادة نصيب بمقدار متابعتهم له صلى الله عليه وسلم، فلكل أحد من الخير نصيب بمقدار ما يتابعه فيه، ولكل منهم خسارته وانحرافه وربما محقه دنيا وآخرة بمقدار تركه وتخليه عن ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن التخلق بأخلاقه التي جعلها الله تعالى له: ((
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ))[القلم:4].إذاً يقول الشيخ: مذهب
الكرامية وكذلك
الأشعرية أو
جهم ، ومن وافقه واضح البطلان، أي: عندما تكون المذاهب أربعة كما قد قسمناها، فالمذهب الذي يجعل الإيمان على أعضائه الثلاثة هو مذهب السلف، أي:
أهل السنة والجماعة ، والمذهب الذي يجعلها على عضوين: القلب واللسان هم
المرجئة الحنفية ، والذي يجعله على عضو واحد هم
الكرامية من جهة، و
الجهمية من جهة أخرى، والذي يقولون: ما في القلب، اختلفوا فرقتين:
جهم و
الصالحي قالوا: إنه مجرد المعرفة، و
الأشاعرة يقولون: التصديق، والشيخ يريد بالقسمة الرباعية أن يصل إلى استبعاد المذهبين الأخيرين، ثم يبدأ يقارن بين المذهبين الأوليين.